شبكة الأوس التعليمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


    ايام مصرية بعيون فلسطينية - الفصل الرابع -

    د. سرمد فوزي التايه
    د. سرمد فوزي التايه


    عدد المساهمات : 17
    نقاط : 49
    قوة الترشيح : 50
    تاريخ التسجيل : 15/04/2014
    العمر : 50

    ايام مصرية بعيون فلسطينية - الفصل الرابع - Empty ايام مصرية بعيون فلسطينية - الفصل الرابع -

    مُساهمة من طرف د. سرمد فوزي التايه الأربعاء يونيو 18, 2014 6:38 pm

    الفصل الرابع: الفقر :
    هذه الآفة الخطيرة والتي تنهش الجسد المصري وتفتك به أشدَّ الفتك جعلتني أقف وأًتأمل هذه الظاهرة مرات ومرات، فصحيح أن الفقر وقلة الإمكانيات المادية هي شعار العالم بشكل عام ولا يكاد يخلو شعب أو أمة دون وجود وتغلغل هذا المرض الخبيث بين جنباته، إلا أنني قد لمست ذلك وأبصرته بأم عيني وكان قلبي يكاد يتقطع كلما رأيت منظراً أو عايشت قصة فقر ، وقد حاولت هنا تدوين بعض الملاحظات والمشاهدات المتعلقة بهذا الجانب الإنساني كالتالي:

    اولاً : العشوائيات:
    هو مصطلح يطلق على مساكن الفقراء الذين يقومون بتشييد المنازل البسيطة المتواضعة - إن صح لنا
    تسميتها بالمنازل - في مناطق تفتقر لأبسط أساسيات البناء المنظم مع افتقارها إلى البنية التحتية الأساسية، وبالتالي فهي أشبه بكومة من علب الكرتون المتراكمة فوق بعضها البعض دون أي ترتيب بغض النظر عن صفتها القانونية.

    عندما كنت اسمع بالعشوائيات أو أشاهد  جزءاً منها من على الشاشة الصغيرة سواء من خلال الأفلام أو البرامج الوثائقية، كنت أظنها أشبه بالمخيمات الفلسطينية، ولكن عند معاينتها وجدت أنها أسوء بكثير مما تعانيه هذه المخيمات بسبب الاكتظاظ السكاني الهائل وقلة توافر الخدمات الأساسية التي تتطلبها حياة البشر يومياً مع ما يرافق ذلك من أمراضٍ وأوبئة صحية و إجتماعية تعايش من يقطنها طوال حياته.

    ثانياً: النوم بالشوارع:
    هذا المنظر وأقول للأمانة أنني أراه لأول مرة في حياتي ، وقد استغربت اشد استغراب لمثل هذه المشاهد التي يتفطر لها القلب؛ ولو كانت هذه المناظر مقتصرة على بضع عشرات من الأفراد لأَغمضتُ عيني وما اعتبرتها ظاهرة حتى أقوم بتدوينها؛ ولكن  للأسف فقد كانت ظاهره مستشرية في هذا المجتمع النبيل ، والملفت للنظر أن هذه الظاهرة لم تكن مقتصرة على فئة عمرية دون الأخرى ، وإنما هي عبارة عن ظاهرة عامة لا تفرق بين امرأة أو رجل، صبية أو عجوز ، طفل صغير في مقتبل عمره أو كهل على أعتاب الموت، فالكل هنا سواء يفترشون الرصيف ويلتحفون السماء ، وفي أحسن الحالات يفترشون قطعة من الكرتون المقوى ويتغطون بحرام أو بطانية.

    ثالثاً: المتسولون:
    ايضاً هذه الظاهرة غير مقتصرة على أفراد من الشعب المصري فحسب، بل إن العالم بأَسره يعاني ويلات هذه المأساة . ما يلفت النظر هنا هو ازدحام المشهد بأشكال المتسولين وطرق تسولهم ؛ فهنا نرى العجائز من الذكور والإناث يستجدون الناس ويتذللون لهم بالأدعية والمديح مقابل جنيه واحد أو ما زاد عن ذلك أو ما قلَّ ، وهناك أطفال بعمر الورود يمارسون نفس الطقوس لاجتذاب ما قدر لهم من النقود، والسائد هنا أن هناك كميات من المتسولين يحملون علباً من محارم الجيب ( المناديل) ويستجدون الناس لشرائها مقابل أي مبلغ نقدي، وان قمت واشتريت أحداها ودفعت ما كُتب لك أن تدفعه من الجنيهات تنهال عليك الأدعية والمديح والبركات.

    من هذه الزاوية كان لي قصتان طريفتان، أحداهما تمكنت من فهمها والتجاوب معها والثانية لم أفهمها إلا بعد أن استفسرت عنها وبالطبع لم أتجاوب معها. القصة الأولى عندما كنت أنا وأحد الزملاء نسير في شارع العريش الواصل بين شارعي الهرم وفيصل ، وإذا بعجوز ضرير فاقد البصر يقف على جانب الطريق ويقوم بترديد الأناشيد والمدائح النبوية التي قدر له أن يحفظها ، وقد كانت في قمة الروعة والإتقان ولم يكن المقصود منه الغناء ولا الطرب وإنما المقصود منها أنها طريقة مبتكرة للتسول ، وقد تنبهنا للمقصود وقمنا بإعطائه ما قدر لنا وما كتبه الله له.

    أما القصة الثانية والتي لم افهمها إلا بعد فوات الأوان، أنه عندما كنت في اسكن في إحدى شقق القاهرة وإذا بي أستمع لأصوات موسيقى وطبول ودفوف أسفل العمارة ، ففتحت النافذة كحب استطلاع وإذا بأربعة أشخاص يسيرون في الشارع ويقومون بعزف الموسيقى المصرية الشعبية، وكانت المفاجأة أنه لم يكن هناك أي مظهر لاحتفال أو عُرْس (فَرَح) أو غيره من المناسبات التي تتطلب هذه الاحتفالية، وهنا بدأت هذه الفرقة بالحديث معي ورفع أيديهم على أنغام الموسيقى وأنا بدوري قمت برفع يدي تحية لهم، وقد استمر هذا الوضع لفترة من الزمن ثم انصرفوا، وعندما قمت بالاستفسار عما حصل معي اخبرني الزملاء أن هذه طريقة أخرى يقوم بها أفراد هذه المجموعة بغية التسول وجمع المال مقابل إرضاء الناس.

    رابعاً : الباعة المتجولون والباعة داخل المركبات العمومية:
    لا تعد هذه الظاهرة ظاهرة لأنها جزء من ثقافة وعادات شعوب الأرض أجمع ، ولكن الغريب هنا أن رأيت هؤلاء الباعة يصعدون إلى المركبات العمومية وبالأخص الباصات الكبيرة (الأوتوبيسات ) ومترو الأنفاق ويلقون بضاعتهم بأيدي وعلى أرجل الناس داخل هذه المركبات ابتداءاً بأول المركبة وصولاً إلى آخرها ثم يعودون من نفس الطريق ولكن بشكل عكسي (أي من نهاية المركبة إلى أولها) ، وان تبين أن أحد الأشخاص قد استهوته البضاعة يقوم بشرائها ودفع ثمنها مباشرة ، وإن لم تستهوه هذه العروض يقوم بردها إلى البائع دونما خجل من المواطن أو تذمر من البائع.

    سبحان الله كيف تكون الاختلافات في الطبائع والعادات بين شعوب هذه المعمورة.

    خامساً : أصحاب البسطات في الشوارع:
    هذه الظاهرة ايضاً منتشرة في معظم أرجاء العالم ولا تقتصر على بقعة جغرافية دون الأخرى. وقد أردت تدوينها هنا لمجرد الملاحظة فقط ومن باب التطرق إلى تنوع المواد المعروضة من مواد غذائية إلى الصحف والمجلات والألبسة والأحذية المواد الغذائية و و ....... وغير ذلك.

    سادساً: انتشار ملمعي الأحذية :
    ينتشر على أرصفة معظم الطرقات وتحديداً في الساحات والميادين العامة ملمعوا الأحذية أو ما يسمى (البويجي) الذي يضع عدته والتي هي عبارة عن صندوق خشبي به كل ما يلزم لتلميع الأحذية، ويأخذ بتلميع حذاء أي شخص يمر بالقرب منه ويطلب منه تلميع حذاؤه مقابل اجر غير محدود وذلك حسب الزبون وكرمه.

    بالنسبة لي كنت أراهم دوماً ولم أفكر يوماً بتلميع حذائي عند أحدهم خوفاً من أن أخدش كرامتهم ، وتوالت الأيام وكنت أرفض الفكرة بشكل مطلق حتى أقنعني أحد الزملاء بأن الموضوع عادي ولا يخدش الكرامة وأن هذا مصدر رزق لهم وطريقة لكسب العيش بالنسبة لهذه الفئة من المجتمع، وبصعوبة إقتنعتُ بالموضوع وأصبحت أُلمِّع حذائي إذا مررت بأحدهم وأعطيه ما كُتب له به من النقود.

    الطريف بهذا الموضوع أن هذا الشخص الذي يقوم بهذه المهنة لا يستخدم الكلمات للتعامل مع الزبون ، فيكفي أن يطرق بيده أو بجزءٍ من صندوقه الخشبي ليصدر صوتاً فحواه أنه يجب على الزبون تبديل إحدى رجليه أو إيذاناً بإنتهاء العملية.

    سابعاً : الرواتب (المرتبات) المتدنية :
    ما تكاد تلتقي بأي مواطن مصري وينشأ بينكما علاقة ومودة وأُلفة ويتم الخوض في هذا الموضوع حتى يتنهد ويزفر زفرة طويلة فتفصح لك هذه التنهيدة عن واقعه المأساوي الذي يعايشه.

    إن الرواتب هنا وحسب الشارع المصري رواتب ضئيلة وضئيلة جداً لا تكاد تكفي لسد أقل الإحتياجات وأبسطها، فعندما يُجمع المواطنون أن معدل الرواتب ما بين مائتين إلى خمسمائة جنيه مصري بالشهر ( أي بين 40 – 90 دولار تقريباً ) - وهذا طبعاً بالوظائف العادية الشائعة الحكومية منها والخاصة - ولكن قد ترتفع في بعض الوظائف المرموقة الأخرى لتصل إلى ألفي أو ثلاثة آلاف جنيه مصري تقريباً لأصحاب الشهادات العليا مع سنوات الخدمة الطويلة أو لأشخاص معدودين في مؤسسات مرموقة معدودة هي الأخرى.

    عندما كنت استمع لهذا الحديث أُصاب بالهلع والحيرة والجمود، حيث كنت أستغرب أشَّدَ إستغراب أن كيف لخمسين أو مئة دولار أن تسد بها إحتياجات أسرة من مأكل ومشرب ومسكن ودراسة وعلاج وبقية أمور الحياة التي لا غنى عنها، وحيث أنني أنا كطالب واسكن مع طلبة ونتقاسم المأكل والمشرب والمسكن ويحتاج الواحد منا إلى قرابة ثلاثمائة دولار شهرياً.

    ملاحظة: كما تم ذكره سابقاً في المقدمة أنني كنت قد كتبت هذا الكتاب قبل حصول الثورة وكانت الرواتب حينئذ كما تم ذكره في هنا، أما هذه الأيام وبعد الثورة فقد وردني أنه تقرر أن يكون أدنى راتب في الوظائف الحكومية سبعمائة جنيه مصري شهرياً.

    ثامناً: العمل بأكثر من وظيفة :
    للإجابة على السؤال الذي تم طرحه نهاية البند السابق أن كيف لرب العائلة أن يعتمد على حوالي مائة دولار لينفقها على أسرته في متطلباتها الأساسية دون الحاجة إلى الرفاهية أو التنزه أو غير ذلك من المتطلبات التي قد تكون من كماليات الأسرة؟
    عندما كان يُطرح هذا الموضوع ويدور أطرافه مع المقربين وأقوم بسؤالهم عن هذا الموضوع، فما يكون منهم إلا أن يوضحوا أن عليهم العمل بأكثر من وظيفة ليستطيعوا تأمين احتياجات أُسَرِهم اليومية ، فقد أتاحت لي الظروف الالتقاء بعدد من الشباب ومعظمهم من حملة الدرجات العلمية العليا وكان راتب احدهم لا يكاد يكفي لإشباع أبسط الاحتياجات، مما يضطره للعمل بوظيفة ثانية وأحياناً بوظيفة ثالثة ، فتراه يخرج من الساعة السادسة صباحاً ولا يعود إلى منزله إلا حوالي منتصف الليل بعد مقارعة أسباب الحياة لمحاولة التغلب على ناب الحياة الجارح.
    كان الله في عونهم وأدامهم بصحة وعافية وأسأل الله العلي العظيم أن يرزقهم من واسع عطاءِه ويُحسِّن أحوالهم.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد نوفمبر 24, 2024 10:09 pm